قصة مكتبة

Friday, April 14, 2006

قصة مكتبة

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد عليه وعلى آله أفضل السلام والتسليم.

من المفترض أن تكون هذه الوريقات هي خطة عمل (Business Plan) مليئة بالكلام الكثير .. حبر على الورق .. أرقام واستراتيجيات تنحني يمينا ويسارا من بين يدي الورق ومن خلفه .. أوراق كثيرة إن لم تأتي بمال المستثمر جاءتنا بصداع نصفي وزغللة في العين اليمنى .. لماذا اليمنى فقط؟ لأن اليسرى كانت في سبات عميق عند منتصف الطريق.


حاولت جاهدا أن أكون مثل المحترفين وأحضرت بعض الكتب المتعلقة بخطة العمل .. قرأتها عن بكرة أبيها ووجدت فيها من الكلام الكثير ما يمكن أن نحول به عنوان الكتاب من "خطة عمل" إلى "قاموس اللغة العربية" .. أصدرت عليها حكم الإعدام شنقا دون استئناف!. ذهبت إلى سريري وتخيلت أني أدخل على أحد المستثمرين بذلك البشت الذي أجر به متبخترا ممسكا تلك الأوراق المكدسة، ما أن وصلت إلى مكتب فخامته إلا ورأيت أني قد نظفت درج المدخل من ورائي وأحد الموظفين وقد تشابك حذائه بالبشت من طوله .. أليست هذه أصول البشت؟ .. أن يكون طويلا .. تماما مثل خطة العمل!


وقفت ساكنا متألما وأنا أرى تلك الفكرة التي في رأسي وهي تتلاشى .. لماذا؟ لأن خبرتي في وضع خطة عمل أقل مستوى من خبرتي في اللغة اليابانية! .. إن دخلت على ذلك المستثمر ببضع وريقات لشراني بثمن بخس ودراهم معدودة .. جلست أفكر في حل ينقذني من الغرق .. ينقذني من خطة العمل.


أمسكت قلمي وجئت ببعض الأوراق أجر عليها أفكاري ، أنفذ بها خطة العمل بطريقتي الخاصة، بقلمي .. بعقلي .. دون جداول ولا أرقام .. من غير ربح ولاخسارة .. ألمس بها مشاعر المستثمر وأعزف بها على أوتاره .. وأنهال ضربا على تلك الأرقام شرقا وغربا حتى لا يكون أمامي إلا أنا وذلك المستثمر .. أنا وأنتم .. نتراقص على أنغام خطتي في تلك الساحة الخالية .. خالية من الأرقام.

فكرتي بسيطة لا تتحمل كل تلك الأوراق .. كثرة الأوراق ترهقها، تكتم على أنفاسها، إن زادت أوراقها صابتها حمى رفعت من حرارتها .. لتحرقها. فكرتي أيها المستثمر لا تريد منك مالا ولا جاها .. لعلي أزحت الهم عنك عندما قلت ذلك .. فكرتي أيها المستثمر هي كتاب .. أرأيت كم هي بسيطة.

قبل أن أخوض في فكرتي أود أن أوضح شيئا هاما هو أن مدى نضج ووعي المجتمع عامل رئيسي في بناء الأمم .. منذ وقت ليس ببعيد وبعد أن تم إختراع تلك السجائر اللعينة، كان المدخنون من الطبقة الأرستقراطية، مما جعلها عادة يتسابق لها المجتمع، وبعد إكتشاف أضرار التدخين أصبح المجتمع ينبذ هذه العادة من خلال رفع أسعار التبغ ومنع التدخين داخل المتاجر والمطاعم وقضايا تجرجر أصحاب تلك الشركات في قاعات المحكمة مكلفة إياهم بلايين الدولارات .. أنا بكل تأكيد لا أتحدث عن دول العالم الثالث! ما أريد أن أقوله هو أن المجتمعات تتحكم في تلك العادات إما أن ترفع من شأنها أو تمحقها في الأرض كعقبان السجائر.


ذهبت إلى العديد من الدول المتقدمة .. وكلما مشيت بين حدائق وأروقة تلك الدول أزددت حسرة على حسرة .. مناظر خلابة .. البعض يستهويهم النظر إلى الطبيعة .. والآخر تستهويه التكنولوجيا والمباني الشاهقة .. لكني رأيت منظرا جميلا يراه الكثير منا عندما يسافر إلى إحدى الدول المتقدمة دون أن يلقي له بالا .. منظر ساحر .. أخاذ .. رومانسي بكل ما تحمله الكلمة من معنى .. منظر جميل عندما تراهما يتعانقان .. يهمس كل واحد منهم إلى الآخر برقة ونعومة، تمر بجانبهما فتستنشق رائحة الحب .. هل أدركتم ذلك المنظر؟ إنه منظر المجتمع مع الكتاب .. الكبير والصغير، الغني والمتشرد .. ترى الجميع مع الكتاب.


أذكر أني رأيت في الحديقة رجلا من ظهره، كان منظره بشعا تغطيه الأوشمة من قمة رأسه لأخمص قدميه، حالقا نصف شعره تاركا النصف الآخر لترعى فيه الأغنام، ولكن عندما مريت من أمامه رأيته ممسكا بكتاب يقرأ فيه، أصابني خجل في نفسي جعلني أنسحب من تلك الحديقة بنصف كرامتي .. الجميع يقدر الكتاب .. ونحن نقدر السجائر.

لست هنا بصدد التهجم على المدخنين بقدر التهجم على مجتمهنا الذي يستبدل الخبيث بالطيب من العادات .. كان التدخين أقرب شيء لذاكرتي لا أكثر ولا أقل.


فكرتي أيها المستثمر كتاب .. كتاب من كل بيت في مكتبة لكل بيت .. كتاب يحمل ذكرياتك .. جديد كان أو قديم. كثيرة هي الكتب في مكتبتك، تزهو بها وتريها كل من حولك .. انظروا لقد قرأت كل هذه الكتب! أنظروا كم هي جميلة في تلك الأرفف الطويلة .. ما هذا؟ غبار؟ أيتها الخادمة اللعينة! .. كتاب من مكتبتك التي يحفها الغبار تحميك وتأخذ بيدك يوم لا تجد من حولك إلا التراب.

نعم أنزلها .. أخرجها من ذلك التابوت الخشبي .. أرجوك بلطف وحنان .. ألا تسمعه يصرخ؟ ألا تسمعه يجهش في البكاء؟ .. نعم الكتاب! كالطفل الذي يبكي مفتقدا أمه .. يطلب رعايتها .. فلم يجد من يمسح دمعه إلا تلك الخادمة!

لا تحزن على فراقه .. صدقني أيها المستثمر سيكون في أيد أمينة، سيكون في قصر يحمل كل المجوهرات الثمينة، مرصع بالعلم والطلاب يمسحون دمعته الحزينة، نرجع بها بسمته بأصابع تقلب صفحاته تدغدغه ليفرقع ضحكة السكينة .. ألا تسمعه يضحك؟ إنظر إلى الرفوف من حولك تصدر هزهزة خفيفة .. فرحا لفكرتي الجميلة .. كالطفل داخل السيارة يقفز ضاحكا وأنت تركن سيارتك .. مركز الألعاب لا يزيغ عن بصره .. يقفز فوق مقاعدها الإسفنجية بقوة ليصطدم رأسه بالسقف لا يزيده ألمه إلا فرحا .. يقول لك أنزلني من هذا التابوت .. أرجوك!

أنفجر شعاع الأضواء وأسدلت الستائر وتعالت أصوات التصفيق والصفير بين الجمهور .. مسرحية درامية جميلة اليست كذلك؟ ما يميزها أنها ليست من نسج الخيال بل حقيقة واقعية(Based on a true story) ، كنا نحن أبطالها.

سوف أكتفي بهذا القدر من تحريك المشاعر وأنتقل بكم إلى فكرتي الأساسية .. ما نريده هو مكتبة غنية بالكتب، كما قلت لك أيها المستثمر لا أريد منك مالا ولا جاها .. لو أردنا أن نبني هذه المكتبة بجهد مستثمر واحد لما تطلب منا كل هذا الجهد .. فرجال البلد الأخيار الذين يهمهم أمر هذا الوطن كثيرون .. لو رفعت يدي بخطة عمل فعلية لتصارعوا عليها .. صدقوني لو فعلتها لكان الأمر أسهل بكثير ولما احتجت إلى تقديم مسرحيتي الدرامية .. وإذاً لكانت مكتبة مملة، مثلها مثل بقية أخواتها التائهات من المكتبات التي تهش الذباب .. فكرتي هي مكتبة تبني مجتمعا متعاونا .. مكتبة تحمل قطعة من كل فرد .. قطعة من الماضي والحاضر والمستقبل .. كتاب من مكتبتك المنزلية .. فإن لم تجد فكتاب جديد من اختيارك .. كل ما أريده منك باختصارهو كتاب .. لا أكثر ولا أقل!

ستسألوني وبعد أن نجمع كل هذه الكتب أين ستوضع؟ أين المكتبة والمبنى؟ بصراحة لا ادري .. من سيبنيها لا ادري؟ قفز هذا السؤال فوق رأسي كثيرا .. يدخل من أذني اليمنى تارة و يخرج من اليسرى تارة أخرى ليقفز فوق رأسي يشد شعري باحثا عن إجابة .. كما قلت لكم من قبل إن أهل هذه البلدة الطيبة كثيرون ولن يتولوا مدبرين .. ولو تولوا و قالوا إنا هاهنا قاعدون فإن لدي فريقا يقول إنا معك سائرون .. إن لم تجد تلك الكتب لها ملجأ سنكون نحن موطنها .. سنفرش من ملابسنا أرضيتها و نبسط أيدينا و أرجلنا لتكون أرففها .. سنبيع أغلى ما نملك لنملكها .. سنبنيها في عز حرارة الشمس وتحت أهطال المطر .. في قصف كاترينا و ريتا وأي أخت لهن تظن أن ستردعنا .. سنبنيها .. سنرهن منازلنا و الصابون الذي في حمّاماتنا لبقّالاتنا ونبنيها .. لا تضحكوا .. لا تهزأوا ، فما قد يفعله الصابون قد لا تفعله الأُمم!